من فعاليات مختلفة

 تكريم الفنان أيوب طارش

تكريم الفنان محمد المرشدي

في الجزائ مع وزيرة الثقافة الجزائرية

يكرم رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري

في حفل الفنان أبوبكر سالم بصنعاء


من فعاليات ملتقى الشعراء الشباب العربي_صنعاء

تكريم الشاعرة فاطمة ناعوت

تكريم الأديب أحمد الشهاوي

تكريم الروائية الكويتية ليلى العثمان

تكريم الشاعر عبدالكريم الرازحي

أثناء إلقاء كلمة في المهرجان ويظهر جانب من الشعراء في الصورة

صورة جماعية للشعراء الشباب  العرب في المحويت_الريادي

تكريم الناقد المصري الكبير  محمد عبدالمطلب

تكريم شوقي بزيع

المطبخ اليمني للأزمات!


    ثمَّة مطبخ يمني سرّي للأزمات. دخان هذا المطبخ أرعب العالم, وأرهبه, ودوّخه! ولو أن سوقا عالمية رائجة تباع وتشترى فيها الأزمات لأصبح اليمنيون أسياد هذه السوق, وتجارها الأكثر خِبرة "وخُبرة" بل والأكثر تهورا وحماقة بسبب الجشع والطمع اللا محدودين.

وحتى أكون أكثر دقة, فإنني لا أقصد اليمنيين بإجمالهم, بل أقصد بعض مفاصل الإدارة الحكومية, أو مراكز قوى بعينها , عبثت وما تزال تعبث بمقدّرات اليمن, وعوامل استقراره وأمنه وتقدمه.

لا, ليس الشعب اليمني من يقطع الطرقات, ويضرب أعمدة الكهرباء, ويفجر أنابيب النفط, ويقتل الشباب السلمي الثائر, ويحتل مسجد العامرية, ويغلق الجسور والأنفاق والشوارع حتى يموت الناس كمدا وقهرا.

ولم يكن الشعب اليمني من احتل ميدان التحرير, في قلب العاصمة صنعاء, ذلك الميدان الذي كان رمزا للثورة والتغيير والنظافة, وحتى بيع العطور والكتب عبر عقود وعهود, وقد أصبح اليوم مزبلةً لبقايا الرجال والدجاج, ومستنقعا آسنا لشراذم جاثمة هائمة متربصة.

من يفعل ذلك ويديره وينفق عليه؟ وعلى مرأى من الشعب والعالم؟ أليست مراكز مهمة في قلب السلطة ورأسها! وبأموال الشعب ومقدراته؟.

وعندما احتلت بقايا الرجال والدجاج شارع القصر الجمهوري, ونهبت سيارات المواطنين ظهيرة الثلاثاء الماضي, شعرت أن البلد ينحدر بقوة صوب هاوية الصمت والمداراة, والمواراة.

هل هو التوافق أم التواطؤ والتباطؤ؟
كيف يصل وزير الداخلية إلى مكتبه ومن أين؟ هل يرى فوضى المرور والعبور الفادحة, وتكدُّس السيارات المميت في الشوارع المغلقة, ونقاط التفتيش الوهمية.. على الأقل نريد انفراجا سريعا لأزمة المرور فحسب! أزمة المرور المصطنعة والمصنوعة في المطبخ  إياه!

لماذا لا يُفتح ميدان السبعين بطوله, من وسط المدينة حتى جنوبها؟ وكذلك الشوارع الموازية له, ولماذا لا يُفتح شارع جمال ويعود اتجاها واحدا؟.. لماذا التفنّن في تعذيب الناس, والتنكيد عليهم؟  إذا لم تستطع حكومة الوفاق حل أزمة المرور في الشوارع ونظافتها, فلا يجب أن نتوقع منها شيئا آخر!

يثبت الشعب اليمني أنه الأكثر صبرا, والأطول بالا بين شعوب الأرض كلها! وكنا نظن أن الشعب المصري هو الأكثر صبرا, حتى رأينا وعشنا مرارة انطفاء الكهرباء لسنة كاملة, وانعدام المشتقات النفطية, وإغلاق الجسور والأنفاق والشوارع, بل إغلاق نصف مساحة صنعاء على الأقل, وبلا أيّة دواعٍ حقيقية أو أسباب قاهرة.

هل نتخيل ردّة فعل الشعب المصري لانقطاع الكهرباء لأسبوع واحد!
حتى مشاكلنا السياسية الأكثر تعقيدا, هي من بنات أفكار المطبخ السرّي! أو نتيجة أخطائه وخطاياه: تأمل القضية الجنوبية, أو مأساة صعدة, أو ملهاة أبين, أو دراما نفط مأرب, أمّا الكوميديا السوداء, فهي مسرحية الكهرباء, وما حلَّ بها وبنا!

لا ألوم وزير الكهرباء, مثلما لم نلم سابقه. فوزير الكهرباء يملك آلافا من الموظفين المدنيين المغلوبين على أمرهم, لكنه لا يملك ولا يدير كتيبة واحدة من جيشٍ أو أمن, فمراكز القوة في الجيش والأمن هي من تدير هذه الفوضى, وإلا فعليها أن تقدِّم لنا كشفا بمن عاقبت من مجرمي ضرب أعمدة الكهرباء, وأنابيب البترول, أو كشفا بمن أدانت وسجنت منهم.

لقد بات الشعب يعرف من وراء مشاهد هذه المسرحية العبثية المملّة, سيئة الإخراج والإنتاج والسيناريو, كما أن المشاهدين والذين هم في هذه الحالة كل اليمنيين, بدأوا يقذفون المنصّة بالأحذية, بعد أن تعالت أصوات الاحتجاج, وخرجت عن السيطرة, وأخشى أن تصعد هذه الجموع المقهورة صوب المنصّة لتأكل المُخرج المتذاكي بأسنان الغضب, وأنياب الجوع, وأضراس الجنون.

الرحيل ليس نهاية العالم!


   أعرف أن كثيرين يحرّضون الرئيس في اللحظة الأخيرة على النكث بالعهود, والتنصل عن الوعود, يفعلون ذلك وهم يذرفون دموع التماسيح التي لا تشبع أبدا!

لكن عواقب النكث بالعهد, والتنصّل عن الوعد, سيتحملها الرئيس وحده! ولأن العالم كله أصبح شاهدا وقاضيا في نفس الوقت, فإنه لا مجال لاستئناف, ولا وقت لالتماس.

إن المشكلة في جوهرها نفسية, وهي تصبح مشكلة عندما يشعر الحاكم أنه يمتلك كل شيء, ويختلط لديه الحق العام بالخاص, وتتلاشى الخطوط الحمراء بين مقدّرات الشعب وثرواته, وما يخص الحاكم وممتلكاته, وهنا تكمن العلّة النفسية التي لا شفاء منها إلا بالصدمة الكهربائية ولا أقول الكي!

وأظن أن الرئيس تلقّى من الصدمات الكهربائية خلال السنة الفائتة بما يكفي لينتبه, ويستيقظ من خدَر القوة, ووهم الديمومة,.. فالديمومة لله وحده!

في العالم المتحضّر, شاهدنا, ونشاهد في كل وقت الرؤساء يغادرون قصور الرئاسة ويرحلون حاملين حقائب ملابسهم فحسب, ملوّحين بالتحية, ناثرين ابتساماتهم, على مودِّعيهم وموظفيهم.

لقد فعلها اليمنيون مرة واحدة في تاريخهم المثقل بالصراع والجشع! فمنذ ما يقرب من أربعين عاما, فعلها في اليمن القاضي عبدالرحمن الإرياني, وتم توديعه في المطار كرئيس جليل محترم أصرَّ على الرحيل والمغادرة!.. وغادر حاملا حقيبته فحسب!

وللأسف فإن هذه النقطة الوحيدة المضيئة في تراثنا السياسي المدني لم تأخذ حقها من التقدير حتى هذه اللحظة, بفعل القبلية السياسية والحزبية التي لم تجعل من تلك اللحظة المضيئة نهارا رائعا يؤسس لليمنيين ولأول مرة في تاريخهم الانتقال السلمي للسلطة, وما يحزن حقا أن اليمنيين, والنخب السياسية والحزبية خاصة لم تقدِّر مبادرة القاضي الإرياني حق قدرها, ولم تفْقَه عظمة تلك الروح النادرة المرفرفة بالعلم, والفقه, والتاريخ والمعرفة.

الآن, حصحص الحق, وأدرك اليمنيون بعد سيل من الدماء والدموع, أن القانون هو الحاكم والحكم, وأنه لا أبديّة لحاكم, ولا توريث لرئيس, ولا سلطة مطلقة لفرد,.. وأن الرئيس هو مجرد أجير مُكلّف من شعبه بمهام وبرامج, ولسنوات معدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة!

ربما نعيش الآن لحظة مؤسِّسَة فارقة في تاريخ اليمن, وليت أنها جاءت بلا دماء وضحايا, وأخطاء وخطايا! إذن لاحتفلنا وابتهجنا كما تحتفل وتبتهج الشعوب المتقدمة وهي تودِّع رؤساءها وحكامها المغادرين!

وحتى لو لم تكن هناك دماء أو ضحايا,.. كيف لنا أن نحتفل في الظلام؟ الظلام القاتل, والظلم المميت, بطول سنة هي الأسوأ والأظلم في تاريخ اليمن.

سنتذكر طويلا الظلام الذي عشناه, ولن ننسى أبدا مرأى أشلاء الشباب, ودمائهم المراقة بلا سبب أو ذنب.

سنتذكر الألسنة المقطوعة, وقد اهتزَّت السماء لدعائها البليغ الصامت.
سنتذكر طويلا مرأى الرعاع المأجورين, وهم يقتحمون مسجد العامرية برداع, تلك التحفة العالمية النادرة! بينما العالم مذهول من هول ما يرى, وما يفعله اليمنيون بأنفسهم وبوطنهم.

الشعب اليمني يعرف مَنْ وراء هؤلاء الرِّعاع, ومن يدفع لهؤلاء الحمقى, والهمج, كي تقف عقارب الساعة! أو تعود القهقرى, ولو عرف مُعِدُّ السيناريو الحق وتأمّل, لاكتشف أن مثل هذه الجريمة ستدمغ عهده بوصمةٍ لا يمكن محوُها, أو غفرانها.

لقد أجفل العالم لمرأى العامرية المحتل. ولا أستبعد أن تصدر الأمم المتحدة قرارا بالتحقيق والمساءلة.

إن اقتحام العامرية واحتلالها, تلخيصٌ لعهد, وخلاصةٌ لتفكير,  تماما مثل قتل الشباب السلمي على أبواب صنعاء, وليت أن تلك الوحشية كانت في التصدي لحفنة الرعاع المأجورين محتلي مسجد العامرية, إذن لكانت الشجاعة في موضعها.. لكن, لأن النظام في غير موضعه, فهو يفعل ما يفعل!

وحدهم المجانين والموتى لا يتغيرون!


لا أزال مذهولا من هول ما رأيت. لم يخبرني أحد. رأيت بأمِّ عينيَّ ما لا أقدر على نسيانه. كانت قافلة الحياة الراجلة القادمة من تعز قد وصلت إلى جولة دار سلم, ووسط انهمار الرصاص على الشباب المنهك, يسقط أحدهم, ويبدو من سيمائه أنه لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره,.. كان الدم يندفع نم عنقه, والشباب يحملونه صوب ما يحسبونه إسعافا,.. ولكن إلى أين؟! الجنود والعصابات الملثمة تسدُّ كل المنافذ.

كان الشاب محمولا على أكُفِّ زملائه وأصدقائه وهو يجود بأنفاسه الأخيرة,.. وفجأةً وأثناء الجري به, وسط الغبار وصيحات الفزع, إرتفعت قدماه العاريتان,.. وكانتا مسلوختين مجرَّحتين من أثر المشي الطويل من تعز إلى صنعاء!.. في هذه اللحظة الصاعقة تجمّدتُ من هول المنظر العاصف , والملخِّص للمشهد اليمني الآن: الأقدام المعطرة بالدماء, المثخنة بالتعب والحلم, في مواجهة الرؤوس المعتمة بالثكنات, المتخمة بالقتل, والقتل فحسب.

ما كان ضرَّ الدويلة العجيبة أن تستقبل الشباب الراجل القادم من تعز بالورود والغذاء وهو يهتف طوال خمسة أيام بلياليها الباردة "يمنٌ واحد"؟.

أقول الدويلة, لأن الدولة التي تحترم مواطنيها, وتحترم الحدَّ الأدنى من واجباتها, تقترف مثل هذا الجرم المشهود في حق أروع وأجمل شباب اليمن,.. بينما لم تجرؤ أن تعاقب مجرمي قطع الكهرباء, أو مانعي البنزين عن العاصمة! ربما لأنها تعرفهم!
إنني أوشك أن أتساءل.. كيف لها أن تعاقبهم وهي تغمز لهم من طرف خفي,.. أتعاقب الدولة نفسها؟!

أيَّة شجاعة بائسة يائسة في مواجهة الشباب الأعزل من السلاح, الشباب المضيء بالحلم, والجوع والسفر والإصرار, والأمل.

يقولون لي تغيَّرتَ! نعم تغيرتُ. وحدها الحجارة لا تتغير, ولا تغيْر! وحتى الحجارة يتفجر منها الماء,.. الموتى والمجانين وحدهم لا يتغيرون!
غيّرتني نوافير الدماء المندفعة من أعناق الشباب الشهداء, أضاء قلبي وسط الظلام والإنطفاء الطويل الثقيل, واشتعلت روحي بالألم والحزن, وأنا أرى آلاف الشباب يُحصدون بمنجل الكراهية والأثرة, واللامبالاة.

إنني لأعجب للصامتين. قولوا لا للقتل فحسب. لا لموت الكهرباء القاتل لوطن بكامله. إن دماء الشعب مقدسة, وهي فوق الأحزاب, وكراسي السلطة, والأشخاص. انظروا للعالم, وتمدُنِهِ, وتقدمه, واحترامه للإنسان أولا وآخرا قبل أيَّة قيمة أخرى.

أيها الصامتون.. كم تبقّى من أعماركم. رِقّوا لمرأى الدماء المندفعة من الأعناق والرؤوس, وأثيبوا إلى ضمائركم,.. وأنتم ترون فلذات أكباد هذا الوطن تُطعن بسكين الكراهية, وتُحتزُّ بفأس الجهل , والجشع, والحقد.

على أقدامهم المقرَّحة جاءوا, من تعز إلى صنعاء. وصل أحفاد الفاتحين الأجداد, من جابوا الأرض وغيَّروا العالم.

من تعز العز انهمروا على صنعاء, ملائكةً وفراشاتٍ وأحلاما. ما أجملهم! يخلقون بلادا, ويحملون ميلادا, ويرسمون بأقدامهم المجرَّحة خريطة جديدة للأمل والعنفوان والمستقبل.

شعرت بحرارة قلوبهم, بالطاقة الكامنة في هدير أصواتهم, والإرادة الثائرة في شلال دمائهم.

يهتفون على أبواب صنعاء "يمنٌ واحد" فيستقبلهم الرصاص والبارود.. ياللعار! أي سقوط هذا لنظام مأزوم مهزوم؟

وداعا عبدالقادر الكاف


أخيرا, كفَّ عبدالقادر الكاف عن الشّدو, وتوقَّف القلب المرهق الخفّاق بالآلام العظيمة, والآمال التي لم تهل, والعيون التي لم تطل ذات هنيهةٍ من هنيهات العمر الأخيرة.

هكذا غادرنا الشاعر الغنائي الكبير/عبدالقادر الكاف, في ليلةٍ شديدة السواد, تعيشها البلاد معنىً ومبنىً.

وكشأْنِ أيّ شاعرٍ أو فنان حقيقي, عاش فقيدنا بيننا مثل نسمة صيف, أو ملاكٍ لا تكاد تسمع صوته وهو يحدثك ولا تكاد تراه لنحافة إطلالته السامقة, وسكينة هامته العابقة بالطفولة, والصدق والمشاعر.

ولأنه من آل الكاف, الأسرة التي توارثت الفن والشعر, والإدارة الحكومية, والغربة أيضا, فقد عاش في بيئة ثقافية غنيّة, تمدّه بالطاقة الخلاّقة التي فجّرت في روحه عواصف الشعر, وعواطف الفن, وخلقت ملامح الإنسان الذي عرفناه, ولوافح الفن الذي ألِفناه.

وبين ربوع وادي حضرموت, وحرارة هوائه وهواه, وخصوبة ترابه وثراه, نَضُج شاعرُنا الراحل باكرا مثل نخلةٍ باسقة, فكان الجنى حلوا حلاوة روحه, يسيل عذوبةً, كأنه السلافة, ويفوح عطرا كأنه حدائق الورد,.. فكان "ربيع الهوى",

"ربيع الهوى" ليس القطفة الأولى من عسل الشعر عند راحلنا الكبير, ولا باكورة الفن السابقة لغيرها لديه,.. فالكثير من إبداعاته لم يُطبع بعد, والكثير من ألحانه لم يرَ النور حتى الآن, وأتمنى أن نرى أعماله الكاملة في أقرب وقت, مجموعةً, مرتّبة, بما يليق به, وبعذوبته, وعذاباته.

تريمُ لا تَريمُ عن الضوء, ولا تكفُّ عن الإشعاع, منارتها أمل, وبيوتُها تاريخ, وحاراتُها محاراتٌ لأجمل الرجال, وأنقى الأرواح, يضيئون دروبنا, ويُسرِجون عزائمنا, بروعة الروح, وأشجان الصوت, وصدق البوح, وعراقة الفن,.. ومن تريم, من شغاف قلبها, ووهج روحها, وضوء وجوهها, عاش بيننا عبدالقادر الكاف, وغادر منسابا مثل ضوء مدينته, وجلال أحزانها, وبهاء أحلامها..

غادرنا وقد أعطى كلَّ شيء ولم يأخذ شيئا, شأنه شأن مدينته الكريمة المعطاءة.. المدينة التي أعطت العالمَ نورَ اليقين, وعباقرة الروح, والعلم والفن, وشرّقَ أبناؤها وغرّبوا يمشون بين الناس ملائكةً في إهاب بشر, وبشرا في سَمْتِ ملائكة.

بين الموت والموت!


  هاتَفَني صديقي الشاعر العربي من أرض الكنانة قبل أيام, مُلِحَّا في السؤال عن الأحوال, والأمل بعد التوقيع على المبادرة الخليجية, وحكومة الائتلاف! وخَتَمَ مُهاتفَتَهُ لي بقوله: إننا نتوقع الكثير من اليمن وشعبه العريق في أن يقدم نموذجا يُحتذى به أمام أمّته والعالم!

أجبته, بصوت مِلؤهُ الحيرة, وربما الحزن: أتمنى ذلك, وإن كنت غير متفائل على المدى القريب! وأتمنى فقط ألا يطول انتظار كل أحباب ومحبي اليمن وشعبه أكثر مما يجب..

ما الذي يتوقعه إخواننا العرب من اليمنيين؟ أطرح هذا التساؤل رغم معرفتي بأن قلّة قليلة من العرب تعرف مُقدّرات وطاقات الشعب اليمني وقدراته ومواهبه,.. كما أني أعرف أن الغالبية من إخواننا العرب-وربما العالم- لا تعرف عن اليمن إلا ما تجود به بعض القنوات العربية, والأخبار والعناوين الملطخة بالإثارة واليومي والآني.

كنت أريد أن أُسهِبَ في ردّي على صديقي الشاعر العربي عبر أثير الهاتف, وأبيّن له مشكلة اليمنيين المُزمِنَة- والمُزمََّنة!- عبر التاريخ.

كنت أريد أن أفيض ملءَ الجرح الغائر الذي لا يندمل أبدا,.. ملءَ الحلم الذي لا يجيء, والآمال العالقة منذ مئات السنين.
كنت أريد أن أصرخ: هنيئا لكم أنكم ما زلتم تنتظرون!

نصف قرن على الأقل من الانتظار والأمل في أن تستيقظ الروح من سباتها, وينهض الجسد الغارق في غيبوبته وغيابه.

صحيح أن الروح فتحت عينيها, وأن الجسد استوى جالسا مُتَلفِتَا مُروَّعَا.. لكنه ما يزال جالسا قاعدا, لا يكاد يعرف طريقه.

إلى متى؟ بين الحياة والموت,.. بل بين الموت والموت؟

أقرأُ تاريخ اليمن, فأجد أن الصراع والحروب والتشتت والتكالب على السلطة هي المعالم الأساسية لهذا التاريخ.. وأتلفَّتُ حسرة,.. وكيف إذن صنع هذا الشعب إنجازاته عبر التاريخ في الخارج والداخل؟.. وأتعمد هنا أن أبدأ بالخارج.

وبعد تأمل أجد أن الشعب كان هو الإنجاز, وأن الدولة- إن وجدت- كانت هي الإخفاق.

كل الأدوار العظيمة لليمنيين, قامت بها قبائله وأفراده المميزون, والدولة غائبة تماما. وكل نابغي هذا الشعب, وعلمائه وعباقرته عبر التاريخ, بزغوا من وسط ظلام الدولة, وظلمها.

وقد لعب" الوقف" دورا رائدا في رعاية عباقرة هذا البلد, وموهوبيه, وغطَّى على غياب الدولة وصراعاتها, خلال الألف سنة الماضية, وهكذا ظهر في اليمن عباقرة الفقه, والعلم, والأدب, خلال حقب الظلام وسنواته. بل أن الوقف غطّى كل ما يجب أن تقوم به الدولة,.. حتى في رعاية البهائم السابلة, والضائعة, بما فيها الكلاب!

ما هي مشكلة اليمنيين المزمنة- والمُزَمَّنة!-؟

تاريخيا, فإن غلبة الصراع على السلطة, وانعدام وجود حاكم راشد لليمن كله, وليس لمنطقة أو قبيلة أو فئة, كان هو الغالب في معظم مراحل تاريخ اليمن.. وأقول الغالب وليس الكل.

حاليا, أو بتركيز أدق, خلال ثلث قرن مضى, أي, هذا الذي ما نزال نعيش لحظاته الأخيرة.. أو أنفاسه المتوارية, فإن مشكلة اليمنيين بالدرجة الأولى كانت أن النموذج في الصدارة كان سارق المال العام!

يمكن أن تجد ديكتاتورات كثيرة في تاريخنا, وحكاما ظلمة في كل وقت,.. لكنك لن تجد عصرا كاملا قائما على مجرد سرقة المال, والنهب المُنظَّم كما كان حاصلا, وما يزال خلال الثلاثين عاما الماضية بالتحديد,.. وقِلَّة قليلة هي التي نَجَتْ من محرقة الضمير هذه, ومن دخانها الذي دوَّخَ بلدا بكامله.

السرقة والنهب, وتفرع عنهما عدم الإخلاص في العمل.
هذه هي معالم الثلاثين سنة الماضية.

كنا نتمنى أن نودع حاكما ونحن نتمنى بقاءه! هل كثيرٌ على هذا الشعب النبيل الصابر والمثابر أن تتمثل أحلامه في حاكم نزيه اليد؟ نزيه اليد فحسب!

الشعب يعاني سكرات الموت جوعا, وقهرا, وظلاما, بينما الحاكم يتحدث عن القفز على السلطة! وكأن السلطة هي الهدف والغاية بحد ذاتها.

كنت أريد أن أتذكر بعضا من ومضات.. لكن ظلام أحد عشر شهرا مسح ذاكرتي! لم يعد في الذاكرة من ضوء سوى حرائق صنعاء وتعز.

جمال عبدالناصر يموت في صنعاء!


لم أتخيل يوما أنني سأسير بسيارتي في الاتجاه المعاكس بطول شارع جمال في قلب مدينة صنعاء! وبينما كنت أطأطئ رأسي خجلا من القادمين بسياراتهم من القاع, ومن العابرين, وأصحاب المحلات المكتئبين, وأختلس النظر إليهم لأكتشف-ويا للهول-أنهم جميعا لا يأبهون! لأن هذه الحالة غدت أمرا واقعا منذ عشرة أشهر على الأقل!

كان شارع جمال إسما على مُسمَّى منذ نصف قرن على الأقل,.. وهو على جماله وبهاء محلاته, لا يكاد يحتمل أن يكون اتجاها واحدا من القاع إلى ميدان التحرير, فكيف يمكن أن يكون اتجاهين؟

هل كان ضروريا أن يسد معتصمو النظام منفذ الشارع على ميدان التحرير؟.. ألا يكفي أنهم احتلوا الميدان كاملا بخيامهم الفارغة الخالية!؟.. الدولة تفعل ذلك! تسد شريان شارع جمال عبدالناصر وترغم الناس العودة القهقرى صعودا باتجاه الغرب في شارع ضيِّق تجاري لا يكاد لزحمته أن يكون ممرا للمشاة العابرين!

قد يقول قائل,.. ولماذا لا تلوم أيضا معتصمي ساحة الجامعة والدائري؟..أقول شتَّان! قد يختلف أو يتفق الناس حول إعتصامات الشباب واحتجاجاتهم في الشوارع والميادين..ولكن أن تعتصم الدولة احتجاجا على نفسها! وفي قلب المدينة وتغلق شريان أهم شارع في هذا القلب..فهذا أغرب وأعجب فعل يمكن أن تقوم به دولة أو نظام!

أفهم أن تقوم مظاهرات مع الدولة, ومسيرات مع النظام القائم,..لكن أن تسد الدولة شارع جمال, الذي يوصل شرق المدينة بغربها, بحجة الاعتصام الموازي! وبخيام لا أحد فيها! فهذه نكتة الموسم, ونكد كل يوم وساعة.

تذكرت بيت شعر يلخص الحالة هذه: "لن تبلغ الأعداء من جاهل/ ما يبلغ الجاهل من نفسه". ماذا فعلت الدولة بنفسها..ونفيسها! جهلا وحماقة.

الأغرب, والأعجب والمحزن, والمميت, أن أحدا لم يرفع إصبعه احتجاجا أو تنبيها, رحمة وشفقة بالشارع, وتُجَّاره, وساكنيه, وبالمدينة وأهلها.

كنا نتمنى مجرد رأي في جريدة, أو قناة أو في حوار.. نتحدث هنا عن الدولة وجهابذتها, وصحافتها, ومجلس نوابها, ووزرائها وشوراها..ولا نطلب من الخيام الرابضة أن تنقشع عن الميدان-معاذ الله!- نطلب فقط أن يفتحوا منفذ الشارع فحسب, إذ أن إغلاقه إمعانٌ في تعذيب هذا الشعب الطيب, وتشويه لا لزوم له, ولا ضرورة. ثم إن الدولة هي المعنية هنا, ولا أحد غيرها.
بمعنى, أنه لا علاقة للأزمة السياسية الحالية والخانقة بإغلاق شارع جمال..خاصة والدولة هنا هي من تفعل ذلك بلا ضرورات أو حياء, أو إحساس بمعاناة الناس.

كنت قد أشرت مرات, إلى أزمة الكهرباء المفتعلة, وأن الظلام أصبح هدفا بحد ذاته! بلا وجع دماغ من قناة الجزيرة أو العربية أو الإنترنت أو الفيسبوك! وهذا فكر وروح القرون الوسطى سياسةً وممارسةً! القرون الوسطى الظلامية التي ما تزال تنبض في العروق, وتتحكم في الأمزجة والطبائع, والسلوك متبلّةً بالقسوة اليمنية الخاصة, والجهل المُعتَّق, والأنانية المفرطة.

كل أنظمة بلدان ثورات الربيع العربي, لم تفعل ذلك..لم تطفئ الكهرباء, ولم تسد شارعا, أو تحتل ميدانا..النظام وحده في اليمن يفعل ذلك..عامدا, قاصدا!..وهو ما لا يقدر على فعله الأعداء!

القياس لدى الفقهاء أحد أعمدة المنطق الفقهي في علم أصول الفقه. وقياسا على سد منفذ شارع جمال, وبعد أن ثبت أن الدولة هي من قامت وتقوم بهذا الجرم المشهود عبر خيامها, وإنفاقها على"الجندرمة" هناك, مع علمها بالضرر الواقع على الشارع وساكنيه, وتجاره, وعابريه..فإننا وبالمنطق والقياس, نقرر أن الدولة بأجهزتها الظاهرة والباطنة, هي المسؤولة عن الظلام الجاثم على المدينة واليمن, قاصدة وعامدة, وكذلك كل الأزمات التموينية الخاصة بالبنزين والغاز.

من يرى شارع جمال وما حل به, بفعل الدولة, قاصدة وبلا دواعٍ, سيقرر معي مسؤوليتها عن البقية المحزنة في سلسلة الأخطاء والخطايا!

التاريخ يُسجَّل, بالصوت والصورة! ومهما حاول البعض أن يجعل الصورة غامضة, والأحداث مجهولة, فإن العالم يرى, وذاكرة الشعوب لا تنسى..وقبل ذلك وبعده, نحن نعيش كل لحظة مظلمة ثقيلة.
تعز تحترق! وتحترق معها خصلة شعرها الغجري الجميل في شارع جمال في صنعاء! وشارع هايل..بعد أن أريق عطرهما, وديس على ورده وزهره..

ليست صدفة إذن!
يريدون لشارع جمال بعد أن أغلقوا مسامه أن يموت بالسكتة القلبية, تماما,.. مثلما قتلوا جمال عبدالناصر ذات يوم بالسكتة القلبية أيضا.

لكن جمال عبد الناصر لم يمت في قلب كل عربي,..وكذلك شارعه في صنعاء, لن يموت في قلب كل يمني.

على أعتاب الزمن الجديد


لم أكن أحب لأحدهم أن يصعد منبر الجمعة كي يكيل الشتائم لمفكر وسياسي عربي كبير بحجم هيكل, وأن يصمه ب"صهيوني" لمجرد فهم خاطئ لكلمة قالها المفكر الكبير.

وإذا كان منبر الثورة الشابة-إذا كان المنبر يمثلها!- قد قال ذلك في حق هيكل, فما عساه أن يقول في حق من يختلف معه أو يمكن أن يختلف معه؟

"القبيلة تريد أن تصبح دولة", لا أظن أن هذه العبارة بعيدة عن ما هو حاصل في اليمن, على اعتبار أن القبيلة أو المجتمع اليمني بطابعه القبلي يحاول أن يرتقي نحو العصر الحديث بإعلانه عن مطلب أساسي كبير وهو الدولة المدنية الحديثة. وفي درب طويل مضن كان قد بدأه الشعب اليمني منذ يصف قرن على الأقل, بإعلانه الجمهورية, ومن قبلها, محاولته إنشاء دستور في غياهب أربعينيات القرن الماضي.

كل تلك الثورات والجهود, كانت في الأساس تحاول أن تصل إلى مرحلة الدولة بالمعنى الحديث, أي الدولة المدنية الحديثة, التي يكون القانون فيها الحاكم الفعلي, والمرجعية الأساسية, يتساوى تحت ظلها الحاكم والمحكوم.

كلمة هيكل كانت إعترافا بمدى التغير الحاصل في اليمن. القبيلة تخرج عن جلدها لأول مرة في التاريخ.. ويصبح مطلبها الأول وجود دولة مدنية حديثة.. وهو ما رأيناه بأم أعيننا على منصات الشباب بكل أطيافهم.

إن الإختلاف على مفهوم الثورة, ما كان له أن يجر أحدهم إلى شتم المفكر الكبير ونعته بالصهيوني! ومن منبر جمعة شباب الثورة! وإنني أربأ بالثورة وشبابها أن يهويا إلى هذا الدرك المظلم والجاهل,..والأحمق!

يبدو أن اليمنيين على مفترق طرق, وأن عليهم وهم على حافة المفترق أن يتفقوا على عقد إجتماعي جديد, جدة مطلبهم الأجد: الدولة المدنية الحديثة.

ليس من المدنية, ولا من الحداثة, الخطاب من على منبر الجمعة بكيل الشتائم لرموز الأمة ومفكريها! لأن هذا بالضبط, هو الطابع القبلي! وهذه هي الروح القبلية المتعصبة الممقوتة في الحوار الحوار والتفكير.

نعم, ما تزال الروح القبلية -للأسف- في جانبها السلبي مسيطرة على الأرواح, والعقول..

تأمل معي قنوات التلفزيون اليمنية, إنها إما مع, أو ضد, وبشكل بدائي "قبلي" فج. يتساوى في ذلك كل القنوات الحكومية والخاصة!

والأدهى أنه لم يظهر برنامج واحد في أية قناة –رغم ظهور أكثر من عشر قنوات جديدة- يحاول أن يستضيف أعلام الرأي والفكر والتاريخ والقانون!

كأن الجميع في مهرجان ضخم لإعلان المواقف فحسب..أبيض أو أسود.
هذا هو المجتمع القبلي الذي يحاول الشباب الرائعون الخروج من بوتقته..وجلده, وجلاديه.

لم تظهر قناة واحدة تعبر عن الإعلام في أعلى تجلياته: محاولة الفهم أولا, والبحث عن حقائق ما يحدث..

الطريقة القبلية في التفكير, والروح القبلية في النظرة للآخر, ما تزالان المسيطرتين على تلابيب القلوب, والعقول.. إلا من رحم الله!

حسنا فعل الشباب الثائر حين لخص أهدافه الكبيرة في ثلاثة كلمات: دولة مدنية حديثة..ولا شيء يمكن أن يجمع اليمنيين أعظم من هذا الهدف الكبير, والملح, العادل, والمعبر عن العصر, وآمال وتطلعات الشعب اليمني كله.

إن أروع, وأغلى ما تمتلكه اليمن الآن, شبابها الثائر, من كل المحافظات..في كل الساحات. الجيل الذي يجب أن يتسلم مقاليد إدارة البلاد, ويتسنم دفة التغيير. شباب يعيش العصر, تغييرا, وتقدما, ونماء, وحياة حرة كريمة.

الجناية الكبرى!


   أمريكا غاضبة لأن الإنترنت يُعطَل أحيانا في سوريا! ومبارك يُحاكم لأسباب كثيرة منها قطع الهاتف والإنترنت ليوم واحد! وفي اليمن لا أحد يهتم أو يأبه لانقطاع الكهرباء وانعدام الديزل ولمدة أشهر!

من يتحدث عن الإنترنت إذا كانت الكهرباء مقطوعة؟ من سيشاهد القنوات الفضائية أو يتابع الأخبار إذا كانت الكهرباء غير موجودة بالأساس؟..هذه هي الحكمة اليمانية, وهذا هو التراث العريق القاسي الذي يجري في الدماء, فلا الحاكم يأسى للناس ولا الناس يفهمون اللعبة!..أريدهم أن يفهموا فحسب..لأن الفهم هو البداية الصحيحة.

دخل أحد تجار صنعاء الكبار في أربعينيات القرن الماضي على الإمام يحي, يعرض عليه مشروع إنشاء سينما في صنعاء, وبعد أن سأله الإمام عن ماهيّة السينما ومعناها, قبل على مضض, ولكن بشروط! فتهلل وجه التاجر فرحا وقال: ما هي الشروط يا مولاي؟.. قال الإمام: أن تكون الأفلام إسلامية.قال التاجر بعد تأمل: قبلت. قال الإمام: وأن تكون الأفلام خالية من النساء تماما!

أطرق التاجر متعجبا محتارا وقال:ولكن يا سيدي من أين نأتي بأفلام بلا نساء البتّة؟..قال الإمام: هو ذاك!

فكَّر التاجر وتأمل قبل أن يعلن موافقته,فقال الإمام: بقي الشرط الأخير..أن يكون الدخول مجانا!

هنا صُدِمَ التاجر, وخرج يجُرُّ أذيال الخيبة, إذا لم يكن قد وقع مغشيَّا عليه.

ولأن هذا التراث القاسي الفضيع يجري في العروق..أقصد في عروق وقلب النظام السياسي اليمني, فقد تم التعامل مع القضايا بنفس الروح الإمامية النابضة في العروق: قطع الكهرباء وانعدام الديزل والبنزين = الدخول للسينما بالمجّان! بمعنى أن الإمام كان يعرف أن شرطه الأخير هو إلغاءٌ للمشروع..وكذلك ما يحدث الآن للكهرباء والديزل والبنزين.

فعل النظام ما لم يخطر على بال أحد..القطع التام للكهرباء والديزل عن الناس جميعا..أي الظلام وعدم التواصل بين الناس.

والظلام في الأصل هو فكرة إمامية, ولكن كل ظلام الأئمّة وظلمهم لا يوازي ظلام وظلم الأشهر الماضية في اليمن. تشرَّدَ الملايين من عمال وموظفي القطاع الخاص, ونكبت البلاد, واكتأبت العباد..إذا لم يكن النظام هو الفاعل فهو المسؤول, وإلا فما معنى الشرعية الدستورية.

وإذن, فإن مسألة الإنترنت تصبح نكتة إزاءَ قطع الكهرباء وعلى مدار الساعة والأشهر.

أيَّة عبقرية سوداء ساذجة متخلفة تفعل ذلك؟..ومن سيقاتل الجيش العرمرم إذا لم يقاتل من أجل تدفق البترول الذي يشكل 80% من الدخل القومي؟

لو حدث في مصر أو غيرها ما يحدث لدينا من انقطاع للكهرباء لأكل الناس رموز النظام وإدارته بأسنانهم.

إن مأساة الكهرباء في اليمن تلخيصٌ لروحٍ, وخُلاصةٌ لرؤية وتفكير, وليست فقط مجرد قسوة أو عقاب جماعي.
إنّها جناية كبرى فعلت بالوطن ما لم تفعله كل الحروب والأزمات خلال نصف قرن على الأقل. كأن البلد مجرد مزرعة خاصة والمالك يعاقب عُمّاله أو عبيده! يحدث ذلك في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين..!

توكل


أجمل ما في جائزة نوبل توكل كرمان للسلام 2011,أنها جاءت مفاجَأةً ومفاجِئةَ للجميع. وفي مقدمة المفاجَئين توكل كرمان ذاتها.
الأروع, أن توكل لم تسعَ للجائزة أبدا, أو تُرشَّح من قبل أحد, منظمات أو دولا, أو أفرادا, أو أحزابا..بل لم يخطر على بالها! وذلك يؤكد نقاء قرار اللجنة الدولية للجائزة,وسلامة اختيارها, وصدق توجهها.

في العادة, هناك مرشحون لجائزة نوبل منذ عشرين سنة على الأقل! وفي مجالات متنوعة, وبعضهم يعيش على الأمل بالفوز, ويحشد كل طاقاته ومواهبه وعلاقاته لليوم الموعود بالإعلان عن فوزه!..وربما غادر الحياة وعيناه مفتوحتان على الأمل بالفوز.

توكل نمطٌ مختلف,من طراز جديد! فهذه الفتاة اليمنية العشرينية تضِجُّ بالحياة, والقوة, والشجاعة, والثقافة, والتمرد, عكس سابقاتها وسابقيها من الفائزات والفائزين بالجائزة خلال عشرات السنين, من عواجيز وعجائز العمل الهادئ, والدائب, والراهبات اللواتي انحنت ظهورُهُنَّ أمام الزمن, والأحداث, والإنتظار.

توكل قادت المظاهرات السلمية, وسقط الشباب الشهداء مضرَّجين بدمائهم بين يديها وأمامها, واشتعلت روحها بنور تلك الدماء, وأصابعُها بنبوءةِ تلك الأشلاء..ولم تُدِر ظهرها, وهي الفتاة التي لم تكن قد دخلت معركة, أو حتى مهاوشة, وتنسحب!..كلا..لم تفعل, بل كان ذلك ولادةً جديدةً لتجربةٍ ازدادت يقينا, وصدقا, وتضحية..وشجاعة.

في تراثنا السياسي اليمني المعاصر لا تكاد تجد دورا للمرأة اليمنية, واضحا وجليَّا, وفاتحا, بمعنى أن يكون بادئا ومؤسسا ومغايرا..وحدها توكل كرمان, وقبل فوزها بالجائزة العالمية الكبرى, شقَّت طريقا بأظافرِ شجاعتها,ومشت دربا مستجدا مزروعا بالمخاطر, يضيءُ ليلَ قلبِها هذا الدربُ, وتُذعِنُ لحرارة قلبِها تلك الطريق, وسط دورٍ لافتٍ للفتاة اليمنية الجديدة في الزمن الجديد.

من فضائل فوزها بالجائزة, أن اليمن عادت إلى واجهة الأخبار الإيجابية, والمشِّرفة, ولا أعرف سببا لغضْبةٍ أبداها أحدهم, أو حسدٍ كتمه بعضهم, فهذه لحظة مشرقة في ليلٍ طويل, لا يجب أن تُغضِب إلا مرضى النفوس, والأرواح.

وائل غنيم المصري الرائع كان مرشحا للجائزة, وهو يستحقها حقا,ولكنّ كفَّة توكل كانت الأرجح, وفي ظني ,أن كفة توكل الشُجاعة المواجهة, الجريئة, رجَحَت على كفة وائل-وهو الفتى- اللاب توب,والكهرباء, والإضاءة.

كانت تجربة وائل غنيم بعد خطفه قبل سقوط نظام مبارك,محزنة ومروِّعَة, ولقد تابعناها بإعجاب وإشفاق, وهي بطولة من نوع خاص..لكنَّ توكل العاصفة شيءٌ آخر, بنت جبال اليمن وبراكينها, وهي تُشعل ليلَ صنعاء بثورتها, صنعاء المحرومة من الكهرباء,والضوء, والنّت, واللاب توب!

وائل غنيم فتى مصر الرائع على موعد قادم مع نوبل,لا يشك في ذلك أحد, بعد أن هزّت ثورة مصر 25 يناير عروشا وجيوشا,وشعوبا!
وفي الواقع, أن فوز توكل بالجائزة هو فوزٌ لجيلٍ بكامله,جيل عربي فتيّ, وكما قلت في مرة سابقة, بدا فجأة مثل جنٍّ خرافيٍّ, قافزا من على الأسوار والشوارع, والحواجز, ويطير زُرافاتٍ ووحدانا, كما قال شاعرنا العربي القديم.

توكل بعد جائزة نوبل هي نفسها توكل قبلها,.. لكنَّها أصبحت تحمل بلادا على كتفيها, وتحتضن حلم شعب في عينيها, حلم اليمن الجديد, يمن الدولة المدنية الحديثة كخطوة على طريق المجتمع المدني الحديث المنشود.

في دم توكل , في جيناتها, في حريق صوتها, تنبضُ كل عذابات وعناءات المرأة اليمنية, في الحقول, والوديان والجبال..يداها المجرَّحَتان وهي تجمع الحطب قبل طلوع الفجر, أنينها الصامت في الشعاب الجرداء, أحزانها وهي تصعد الذُرى حاملة جِرار الماء, وقِرَب الحياة, بلا تعب ظاهر, أو لغبٍ كائن.

منذ مئات السنين, سُمّيَت شرعب بشرعب السلام, تيمُّنا بهذا اليوم, وهذه الفتاة, وهذه الجائزة..هكذا يقول أطفالنا,..ونقول أيضا!

أصبحتِ يا توكل عنوانا لبلاد, ورمزا لآمال, وصوتا لمستقبل, وضوءا لفجر يوشك أن ينبلجَ من بين أصابعك.
لذلك, كوني, صوتَ من لا صوتَ له, بل صوت شعب وأمة, وحلم دولة يمنية مدنية حديثة, تعيش العالم, الذي صفَّق لكِ, ورفع قبَّعته احتراما وإعجابا بشجاعتك, وضوء صوتك, وحرقة آمالك نحو العدالة, والقانون, والتقدم, والعيش الكريم لشعب كريم.

لم تعودي مِلكا لحزب,..ولم تكوني كذلك,.. أصبحتِ مِلْكا لشعب, وملكةً لبلاد, بين أجفانها أرقُ الملايين من النساء والرجال وأحلامهم في التغيير والتنوير...الملايين التي لا يجب أن تختلف حولك أبدا,,قد يفعلها السياسيون, لكن الشعب لن يفعل.

في تاريخنا ثمَّة ملكتان وحيدتان..بلقيس وأروى..كانتا متوّجَتين بالجيوش, وكتائب الجنود, ولأنه لا ملكات لدينا في عصرنا الراهن بالمعنى القديم, فإنك قادرة أن تكوني ملكة الأمل, والرجاءَ الجديد المتجدد بلا جيوش, ولا كتائب..المشوار طويل ومُضْنٍ..لكنّ هذا كان اختيارَكِ, واختبارَكِ!