جمال عبدالناصر يموت في صنعاء!


لم أتخيل يوما أنني سأسير بسيارتي في الاتجاه المعاكس بطول شارع جمال في قلب مدينة صنعاء! وبينما كنت أطأطئ رأسي خجلا من القادمين بسياراتهم من القاع, ومن العابرين, وأصحاب المحلات المكتئبين, وأختلس النظر إليهم لأكتشف-ويا للهول-أنهم جميعا لا يأبهون! لأن هذه الحالة غدت أمرا واقعا منذ عشرة أشهر على الأقل!

كان شارع جمال إسما على مُسمَّى منذ نصف قرن على الأقل,.. وهو على جماله وبهاء محلاته, لا يكاد يحتمل أن يكون اتجاها واحدا من القاع إلى ميدان التحرير, فكيف يمكن أن يكون اتجاهين؟

هل كان ضروريا أن يسد معتصمو النظام منفذ الشارع على ميدان التحرير؟.. ألا يكفي أنهم احتلوا الميدان كاملا بخيامهم الفارغة الخالية!؟.. الدولة تفعل ذلك! تسد شريان شارع جمال عبدالناصر وترغم الناس العودة القهقرى صعودا باتجاه الغرب في شارع ضيِّق تجاري لا يكاد لزحمته أن يكون ممرا للمشاة العابرين!

قد يقول قائل,.. ولماذا لا تلوم أيضا معتصمي ساحة الجامعة والدائري؟..أقول شتَّان! قد يختلف أو يتفق الناس حول إعتصامات الشباب واحتجاجاتهم في الشوارع والميادين..ولكن أن تعتصم الدولة احتجاجا على نفسها! وفي قلب المدينة وتغلق شريان أهم شارع في هذا القلب..فهذا أغرب وأعجب فعل يمكن أن تقوم به دولة أو نظام!

أفهم أن تقوم مظاهرات مع الدولة, ومسيرات مع النظام القائم,..لكن أن تسد الدولة شارع جمال, الذي يوصل شرق المدينة بغربها, بحجة الاعتصام الموازي! وبخيام لا أحد فيها! فهذه نكتة الموسم, ونكد كل يوم وساعة.

تذكرت بيت شعر يلخص الحالة هذه: "لن تبلغ الأعداء من جاهل/ ما يبلغ الجاهل من نفسه". ماذا فعلت الدولة بنفسها..ونفيسها! جهلا وحماقة.

الأغرب, والأعجب والمحزن, والمميت, أن أحدا لم يرفع إصبعه احتجاجا أو تنبيها, رحمة وشفقة بالشارع, وتُجَّاره, وساكنيه, وبالمدينة وأهلها.

كنا نتمنى مجرد رأي في جريدة, أو قناة أو في حوار.. نتحدث هنا عن الدولة وجهابذتها, وصحافتها, ومجلس نوابها, ووزرائها وشوراها..ولا نطلب من الخيام الرابضة أن تنقشع عن الميدان-معاذ الله!- نطلب فقط أن يفتحوا منفذ الشارع فحسب, إذ أن إغلاقه إمعانٌ في تعذيب هذا الشعب الطيب, وتشويه لا لزوم له, ولا ضرورة. ثم إن الدولة هي المعنية هنا, ولا أحد غيرها.
بمعنى, أنه لا علاقة للأزمة السياسية الحالية والخانقة بإغلاق شارع جمال..خاصة والدولة هنا هي من تفعل ذلك بلا ضرورات أو حياء, أو إحساس بمعاناة الناس.

كنت قد أشرت مرات, إلى أزمة الكهرباء المفتعلة, وأن الظلام أصبح هدفا بحد ذاته! بلا وجع دماغ من قناة الجزيرة أو العربية أو الإنترنت أو الفيسبوك! وهذا فكر وروح القرون الوسطى سياسةً وممارسةً! القرون الوسطى الظلامية التي ما تزال تنبض في العروق, وتتحكم في الأمزجة والطبائع, والسلوك متبلّةً بالقسوة اليمنية الخاصة, والجهل المُعتَّق, والأنانية المفرطة.

كل أنظمة بلدان ثورات الربيع العربي, لم تفعل ذلك..لم تطفئ الكهرباء, ولم تسد شارعا, أو تحتل ميدانا..النظام وحده في اليمن يفعل ذلك..عامدا, قاصدا!..وهو ما لا يقدر على فعله الأعداء!

القياس لدى الفقهاء أحد أعمدة المنطق الفقهي في علم أصول الفقه. وقياسا على سد منفذ شارع جمال, وبعد أن ثبت أن الدولة هي من قامت وتقوم بهذا الجرم المشهود عبر خيامها, وإنفاقها على"الجندرمة" هناك, مع علمها بالضرر الواقع على الشارع وساكنيه, وتجاره, وعابريه..فإننا وبالمنطق والقياس, نقرر أن الدولة بأجهزتها الظاهرة والباطنة, هي المسؤولة عن الظلام الجاثم على المدينة واليمن, قاصدة وعامدة, وكذلك كل الأزمات التموينية الخاصة بالبنزين والغاز.

من يرى شارع جمال وما حل به, بفعل الدولة, قاصدة وبلا دواعٍ, سيقرر معي مسؤوليتها عن البقية المحزنة في سلسلة الأخطاء والخطايا!

التاريخ يُسجَّل, بالصوت والصورة! ومهما حاول البعض أن يجعل الصورة غامضة, والأحداث مجهولة, فإن العالم يرى, وذاكرة الشعوب لا تنسى..وقبل ذلك وبعده, نحن نعيش كل لحظة مظلمة ثقيلة.
تعز تحترق! وتحترق معها خصلة شعرها الغجري الجميل في شارع جمال في صنعاء! وشارع هايل..بعد أن أريق عطرهما, وديس على ورده وزهره..

ليست صدفة إذن!
يريدون لشارع جمال بعد أن أغلقوا مسامه أن يموت بالسكتة القلبية, تماما,.. مثلما قتلوا جمال عبدالناصر ذات يوم بالسكتة القلبية أيضا.

لكن جمال عبد الناصر لم يمت في قلب كل عربي,..وكذلك شارعه في صنعاء, لن يموت في قلب كل يمني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق